الرئيسية / تنمية بشرية / متى نهتم بالبشر قبل إهتمامنا بالحجر !
متى نهتم بالبشر قبل إهتمامنا بالحجر !

متى نهتم بالبشر قبل إهتمامنا بالحجر !

حين نتأمل الحياة بشكل عام‏,‏ لابد أن نتوقف أمام ظاهرة لافتة‏,‏ تتمثل في شيوع العديد من مظاهر الحداثة الشكلية في أساليب وطرز العمارة الأجنبية‏,‏ وفي التسابق في تشييد الأبراج الشاهقة‏,‏ والمباني الضخمة‏,‏ التي تقام علي مساحات شاسعة‏,‏ تضم المجمعات التجارية‏,‏ المنقولة عن النمط الأمريكي‏.

تناقضات

ويمكننا اليوم أن نتأمل واقعا ممتلئا بالتناقضات نتيجة إهمال مسار تنمية البشر لمصلحة تنمية الحجر‏,‏ عبر شواهد لا تحصي‏,‏ منها ـ علي سبيل المثال ـ إنشاء نسخ لمتاحف عالمية عريقة في قلب بعض دول المنطقة‏,‏ بدلا من تأسيس أكاديميات متخصصة في الفنون والتراث،‏ وبدلا من إنشاء متاحف وطنية لعرض تراث الفنون العربية والإسلامية التي تتفاخر باقتناء الكثير منها العديد من أعرق المتاحف الأوروبية‏,‏ لخلق المواطن القادر علي تطوير آثاره ودراستها والتنقيب عنها‏,‏ وتطوير الفنون والإضافة عليها‏.‏

كما نري التسابق لإنشاء الجامعات والمعاهد الخاصة‏,‏ قبل أن نسعى لتطوير المستوي الأكاديمي بالجامعات الوطنية المهملة‏,‏ التي تحول أغلبها إلي الاهتمام فقط بمنح الشهادات وإقامة المهرجانات لتوزيع تلك الشهادات‏!‏ أو إنشاء مهرجانات سينمائية دولية‏.

الإنسان أولا

ولعل أي متابع لأي حركة تنمية حقيقية وتحديث ناجحة‏,‏ يمكننا أن ندرك أن تلك الحركات تتأسس علي عنصرين أساسيين هما‏:‏ بناء الإنسان الحر الذي يتمتع بكامل حقوقه في دولة مؤسسات‏,‏ وإقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة من جهة‏,‏ والانخراط الكامل في منتوج الحداثة،‏ وبفحص مثل هذين الشرطين سنجد أن هناك‏,‏ في عملية التنمية‏,‏ نوعا من الإغفال لإمكان تحققهما‏.

وبإلقاء نظرة مدققة علي الواقع الثقافي اليوم في المنطقة‏,‏ يتبين لنا أن ما بدأته وحرصت عليه منذ مرحلة ما قبل الاستقلال‏,‏ فيما يتعلق بالعناية بالعنصر البشري‏,‏ وبناء الفرد‏,‏ كمحور مواز من محاور التنمية‏,‏ قد تقلص‏,‏ وتراجع‏,‏ بالمقارنة بين الطموحات الكبيرة للنهضة الكويتية‏,‏ مثلا‏,‏ في بداية مشروعها التنموي‏,‏ وبين ما هو موجود في الواقع الآن وهنا‏.‏


ويمكننا الآن أن نراجع أوضاعا تكشف تراجعا في حقول الثقافة والفنون والإعلام‏,‏ لا يمكن القول عند رصدها إنها تعكس تجمدا في الأنشطة الإبداعية‏,‏ وفي توفير المناخ الثقافي الذي تربت عليه أجيال عدة من أبناء الكويت والمنطقة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي‏، بل هي تعكس تراجعا سافرا في تلك الحقول‏,‏ ليس علي مستوي مقارنة الطموح المأمول بما آلت إليه الأمور فقط‏,‏ بل حتى على واقع تراجع كامل للنشاط الثقافي وإهمال إنجاز البنية التحتية للتنمية الثقافية‏,‏ كالمسارح والمعاهد الفنية‏,‏ ودور النشر‏,‏ والمكتبات العامة والمتاحف وقاعات الفنون والموسيقي للكبار والصغار علي حد سواء‏.‏

الاستثمار في البشر

كما أنه من البديهي أيضا القول إن الثقافة‏‏ في مجتمعاتنا العربية‏,‏ تقابل ما تعكسه دور العلوم العصرية والتقنية في ترتيب مواقع الدول في تقدمها‏,‏ وبالتالي‏,‏ فإن المثقفين يلعبون دورا مركزيا في هذا المجال‏,‏ وفي تخطيط السياسات العليا التي تنطلق من التوجه العام لديهم‏،‏ ولا يمكن أن تحقق الثقافة الدور المأمول منها إذا لم يوضع العنصر البشري علي رأس أولويات التنمية في أي مجتمع‏,‏ بحيث يتلقي الفرد تعليما جيدا وراقيا وفقا لأحدث نظم التعليم‏,‏ وأن يتلقي المعارف‏,‏ بحرية تامة‏,‏ من منابعها‏,‏ وأن يتعرف علي أمهات المعارف‏,‏ أدبا وفكرا وعلما وفنا‏,‏ وأن تتاح له الوسائل التي تتيح له التعرف علي ما يصدر في العالم من معارف‏,‏ وإعمال العقل‏,‏ ووضع كل الأفكار تحت مجهر النقد ليكتسب القدرة النقدية التي تمكنه من التمييز والوعي‏,‏ واكتساب القيم الإيجابية‏ والابتكار‏.‏

فمثل هذه الشخصية هي ما نحتاج إلي بنائها‏,‏ لتحقيق التنمية في شكلها المثالي‏,‏ والنهضة التي نصبو إليها‏,‏ ليس هنا فقط‏,‏ وإنما في منطقة الخليج العربي‏,‏ وفي الأقطار العربية كافة، فقد خاضت المجتمعات العربية‏,‏ كفاحا ونضالا قويين للتحرر من المستعمر‏,‏ ثم لتأسيس نهضتها المعاصرة بسواعد أبنائها عبر استعادة تراث التنوير العقلي‏,‏ وبناء شخصية قادرة علي التعامل مع لغة العصر الحديث‏,‏ بندية ومرونة وطموح للوصول بثقافتنا ومجتمعاتنا إلي ما تستحق من مكانة‏.‏

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى